البيت الآن يغصّ بالنّاس. قدموا من كلّ صوب وحدب. كانت تحبّ الجميع. فقدم إلى مأتمها كلّ من سمع الخبر الذي تسرّب بسرعة البرق عبر موقع التواصل الاجتماعي “Facebook”. إنّها كارثة لم تكن في الحسبان. وهل الموت يمكن أن نتوقّع متى يفاجئنا ؟
– كانت معنا هذا الصّباح. يا إلهي ! من كان يتصوّر أنّها كانت تودّعنا وهي تبتسم وتتمنّى لنا “شاهية طيّبة” عند انتهاء اللّقاء ؟
– سبحان الله ! كنت أخبرتها أنّني ذاهبة إلى مأتم على إثر لقائنا فتمنّت لي السّلامة في الطّريق. ما تصوّرت أبدا أنّني سأحضر مأتمها. إنّ الطّريق لا تُؤتمَن.
– كنت أنتظر زيارتها خلال الأسبوع القادم. يا الله ! لم أفكّر أنّ الموت غادِر. وأنّه سيختطفها بسرعة هكذا.
– ما يقرّره القدر، لا يمكن أبدا تفاديه. مسكين ابنها الأصغر. كانت دائما تحدّثنا عنه وتتمنّى أن يطيل الله عمرها إلى أن تطمئنّ على مستقبله. إنّه الآن وحيد. من له بعدها سوى والده !؟ لكنّه لن يعوّضها.
– الأمّ لا بديل لها. فهي دوما سند الجميع. من سيكون سندا لزوجها الآن ؟
– قالت لنا صباح اليوم أثناء لقائنا : أوصيكم أن تكونوا أمّهات وآباء لأطفالكم في القسم. انظروا في وجوههم، في عيونهم، تعرّفوا ما يشغلهم وما يُحزنهم. اقتربوا منهم حتّى تكونوا على بيّنة ممّن هو مريض أو جائع أو خائف أو يعاني من مشكلة مّا… إنّ الجانب الإنسانيّ النّفسيّ جدُّ مهمّ في توازن الفرد. كونوا قريبين من تلاميذكم حتّى تساهموا في توازنهم العاطفي فتضمنون لهم ظروف التعلّم بأكبر قدر ممكن. كم كانت طيّبة ومحبّة للجميع… رحمها الله…
– كانت طيّبة فعلا مع الجميع. وكنت أوصيها دائما ألاّ تسرع في الطّريق.
– صحيح، رأيتها أكثر من مرّة تقود سيّارتها بسرعة. ونبّهتها إلى ذلك ونصحتها ألاّ تسرع فالطّريق خطِرَة. لكنّ كما يقال “ساعة القضاء تأتي في غفلة”.
– ذات مرّة كنت في سيّارة تاكسي، وكنت على عجل. طلبت من السّائق أن يسرع ففعل. لكنّ سرعته لم ترضِني وأنا لديّ أمور مستعجلة، فطلبت منه أن يسرع أكثر… ثمّ أكثر… ثمّ أكثر… وإذا به يتوقّف فجأة قرب مقبرة. نزل من السّيّارة مسرعا وأمرني بالنّزول. استغربت ولكنّي أمام إصراره نزلت تَملؤني الدّهشة. سألته : “ما الأمر يا رجل ؟ ألمْ أقل لكَ أن تسرع لأتمكّن من قضاء كلّ شـؤوني؟!” أمسك بيدي واقتادني بعض خطوات وهو يسحبني مشيرا إلى القبور المتناثرة هنا وهناك في غير ترتيب وقال :”أتَرى هؤلاء ؟ جميعهم لم يُتِمّوا قضاء شؤونهم…”
فهمت قصده. عُدت إلى السّيّارة دون أن أنبس بأيّ كلمة بعد ذلك، وتركته يقود التّاكسي بحذر.
– لا تجادلوا كثيرا. فحين يحضر ملك الموت لا ندري أيّ ساعة يختار.
كان الجميع يتحدّث عنها وهي ممدّدة في الغرفة في غياب لم تختر موعده. لن تردّ على ما يقوله الحاضرون لتعزية أسرتها. كيف لها أن تخبرهم عمّا حدث وهي قد فارقتهم إلى الأبد ؟ لا أحد يعلم أنّها ما كانت تسرع وهي في طريق العودة. لا أحد سيصدّقها مهما قالت لو تكلّمت. فحتّى سائق الشّاحنة، الشّاب، حديث العهد بالسّياقة، سوف لن يقول غير ما قالوا. سوف يقول الجميع إنّها المخطئة. فهي من قامت بمجاوزة ممنوعة وهي تسرع. وهذه هي نهاية كلّ من لا يحترم قانون الطّريق. وفي النّهاية سيترحّم عليها الجميع وتنقضي أيّام وينساها الكلّ سوى ابنها الأصغر. سيكون وحيدا بعدها. كانت هي مرافقته الوحيدة. الآن انتهى الأمر. عليه أن يعوّل على نفسه. له الله من بعدها.
البيت قد امتلأ بالمعزّين. الأهل في حزن شديد. زوجها صامت. لا يردّ على من يكلّمه ليعزّيه. الصّدمة شديدة. قد يستفيق منها وقد لا يستفيق. كانت قالت له اللّيلة السّابقة إنّها لن تذهب إلى العمل، تشعر بضيق ولا ترغب في مغادرة البيت. لكنّه شجّعها قائلا : “لا بأس، بقاؤك في البيت قد يعمّق شعورك هذا. اذهبي واعملي أفضل.” ماذا لو لم يقل لها ذلك ؟ كانت ستبقى في البيت وربّما كانت الآن بخير. وما كان حضر كلّ النّاس هنا وما كان أحد جادل الأمر. أو ربّما كان حدث أمر آخر أشدّ وقعا. من يدري ؟
قال أحد من جاء لتأدية واجب التّعزية وحضور مراسم الدّفن :
– الطّريق له قانونه. هذا صحيح. ولا أحد يمكن أن ينكر أنّ المجاوزة الممنوعة من أخطر الأخطاء في قانون الطّرقات، تؤدّي إلى الموت في أغلب الحالات تقريبا. لكنّ للسّياقة أخلاقيّات كذلك. من المفروض أن تُدَرّس هذه الأخلاقيّات ضمن قانون الطّريق. فلا يمكن أن نعالج الخطأ بخطإ، لأنّنا نتعامل مع بشر وليس مع شيء آخر، وهل هناك أغلى من الإنسان ؟ فهل من المعقول أن نضحّي بروح بشريّة كما في هذه الحالة، لأنّ السّائق قد تمسّك بيمينه حين أخطأت هي التّقدير في المجاوزة ؟
– صحيح كنت في نفس الطّريق أسير خلف سيّارتها حين قامت بالمجاوزة. ويبدو أنّ الشّاحنة التي كانت تسير أمامها حجبت عنها رؤية الطّريق، ومن الواضح أنّها قد تسرّعت حين تبعتها وهي تقوم بالمجاوزة. فوجدت نفسها وجها لوجه مع الشّاحنة الآتية من الاتّجاه المقابل. لكن لو أنّ سائق الشّاحنة قد انعرج ولو قليلا إلى يمينه، ما كان ليصطدم بها. لو أنّه خفّف من سرعته قليلا لأنّها كانت قد تورّطت. فلا هي تستطيع العودة إلى اليمين ولا التوقّف وسط الطّريق. ولكنّ اللّوم بعد القضاء بدعة، كما يقولون.
– لذلك قلت، كان من الممكن تفادي هذا الحادث والحفاظ على سلامة هذه الأمّ لو أنّ سائق الشّاحنة تحلّى بأخلاقيات السّياقة. لكن !
– ماذا لو أنّهم يدرجون في التّدريب على السّياقة تدريبا على تفادي مخاطرها ؟ أظنّ أنّ ذلك سوف يساهم في التقليص من الحوادث. سوف يصبح كلّ من يستعمل الطّريق مهيّأ لتفادي خطر أخطاء الآخرين في حالة حدوث ذلك. فالإنسان خطّاء بطبيعته.
فتح ابنها الغرفة ودخل عليها يريد رؤيتها. جلس على حافة السّرير ووضع يده على جبينها وبسمل وقال :”أمّي… أمّي… استيقظي أرجوك. ولا تفزعي. أنا ابنك.”
فتحت عينيها. نظرت يمينا ويسارا فوجدت نفسها في سريرها، في غرفة نومها. سألت عن السّاعة حين دخل زوجها الغرفة وقال لها : “إنّها السّادسة مساء. الحمد لله على سلامتك.”
– ألم أمُتْ ؟ هل أنا حقّا حيّة ؟
– أنت بخير، الحمد لله، دفع الله ما كان أعظم.
– إذن هل كان كابوسا هذا الذي كنت أراه ؟
– ربّما بسبب الصّدمة، كنت تحلمين. فقد تناولت دواء مهدّئا إثر الحادث، لتنامي وترتاحي. ها أنت بخير الآن.