بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاتة
وهل الحياة وضعت إلا لهم؟! إنهم الحقيقيون بالعيش على وجه البسيطة، من أراد الله منهم أن يعمروا الحياة ويسخّروا ما وضع فيها من أجل الأهداف الأساسية والمقاصد الرئيسة التي من أجلها بسطت الأرض، والتحفت بامتداد السماء، ووتدت بالجبال، وانتشر على صفحتها الأحياء.
يقول الراغب الأصبهاني: " إن هناك ثلاثة مقاصد أساسية للمكلفين:
المقصد الأول: عبادة الله (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الذاريات 56.
المقصد الثاني: الخلافة في الأرض (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) البقرة 30.
المقصد الثالث: العمارة للأرض (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) هود 61، أي طلب منكم أن تعمروها.
انظروا لعظم هذه المقاصد وحجم هذه المطالب التي كلّف بها الإنسان، كيف بمقدور إنسان أن يتحملها ويبادر في إنفاذها إن لم يكن إيجابياً وتقمص هذه الشخصية وتزيّا بحلتها.
هكذا إذا كانت الأهداف عظيمة والمرامي بعيدة عملت من أجلها النفس، وارتفعت بها إلى أرقى معاني العطاء وأسمى صور البذل والتضحية في تفانٍ عجيب يرمي إلى تحقيق هذه المقاصد وإحالتها إلى الواقع.
إن الإيجابيين في الحياة، أصحاب أهداف ضخمة، لا تعترف بالدون، ولا ترضى بالقليل، إن نهمتهم لا تشبعها غير المقاصد العليا، وشهوتهم لا تقضيها غير المرامي السامية، وبقدر عظم الهدف وعلوّه يكون موقع النفس من الحياة ومكانها من سباق الدنيا المحموم وقد قيل: المرء حيث يضع نفسه.
إن الإيجابيين هم الذين فهموا ناموس الحياة وسرّها الدفين، وعملوا على إنفاذه بعد عمل دؤوب لكشفه وفك شفرته، لقد أدركوا ذواتهم وفهموا كيف يتعاملون معها بحرفية متناهية؛ ذلك لأن أعظم المشكلات التي تكون وراء القعود ونكوص الهمم هو عدم فهم الذات.
الإيجابيون من حالفهم التوفيق لا شك، فلا خير للمرء إن لم يكن على اتصال جيد برب السماوات والأرض، لا خير في مشاريعهم إن لم يكن لهم حظ من التوفيق الإلهي؛ فعناية الله ورعايته هي أولى اشتراطات الإيجابية.
الناجح..موفق
أساء ظنه من قال أن سيكون له حظ من الإيجابية وهو ضعيف الصلة بالله - عز وجل - ومخطئ من اعتقد ولو للحظة أن المعرضين عن باب الله سيكتب لهم في ديوان الإبداع مداد، أو يذكر لهم في سجل الآثار اسم.
إن أعظم رافد يدعم كل عمل إيجابي هي هذه الصلة النورانية الراقية، وأعظم نبع ينهل منه المرء معاني البذل والعطاء اللامحدود في سبيل الإيجابية هو هذا النبع الصافي الرقراق الذي لا ينضب والماء الزلال الذي لا يتغير طعمه، ولا يتعكر صفوه.
إن من كان له حظ من العلاقة الوثيقة بملكوت السماوات والأرض له نصيب وافر من الإيجابية المفعمة بروح الإيمان، وقدر واسع من العطاء المشع بمعاني العظمة الإلهية والخير الرباني.
إذا لم يكن عون من الله للفتى *** فأول ما يقضي عليه اجتهاده
وبقدر ما تملك من هذه المحطة التي يتزود منها المؤمن الصادق الذي يفني عمره في خدمة دينه ونفع أهله رفعة أمته وإخلاد اسمه، بقدر ما يتملّى من فيض هذه المحطة، ويعبّ من معينها، يكون بقاء أثره ودوام ذكره ونفع ما يخلّف ويبقي.
هل تعرفون لماذا؟
لأن الإيجابي رجل رباني، من حيث منطلقه، ونعم المنطلق هذا والباعث، فبالله يستعين، وعليه يتكئ ويعتمد، ومنه ينتظر الإثابة، وإليه ينظر ويرتقب، وفيه يعمل ويجتهد.
يتلقى توجيهات ربه بضمير حي وتجاوب فاعل وترحيب حار، ويبادر إلى إنفاذها والإذعان لها، ويسرع إلى إنجازها في تفان متناه وإتقان فذ وإخلاص عميق، كيف لا!! وهو يتحلى بصفة ربانية ويتشبه بخلق إلهي رفيع هو (الإتقان).
إن من يحرم هذا النور العميم والخير الجسيم فقد حرم الخير كله، فإن مفاتح الخير ولمع العلم وكشوف المعرفة ومجامع الأدب وبارقات الفكر وسانحات العقل وصيود الخاطر ومعالم النجابة وملامح الفطنة والمهابة وقسمات الرشد والكياسة هي فيوض ربانية، ومنح إلهية، ونعم سماوية.
يرزق بها من يشاء، ويمنح من يريد، فعلى المرء أن يجدّ في طلبها، ويحث الخطا لنيلها، باسترضاء الله وإجابته إلى ما يدعو، والانتهاء عند أمره بالاستجابة ونهيه بالامتناع.
" الإيمان محرك حقيقي!! "
إن القارئ الفطن والمطلع الفاحص لكتب التاريخ والسيرة النبوية ليذهل من ذلك الجيل الذي صنع على يد أعظم من أنجبتهم البشرية محمد - صلى الله عليه وسلم -.
الجيل الذي تخرج في هذه المدرسة النبوية الراقية، شهادتهم تلك الإنجازات العظيمة التي أبقوها، وإجازتهم ذلك الأثر الذي خلّفوه وراءهم.
ويعجب أشد العجب من أين لهم بهذه القوة النفسية والدافعية الشخصية التي صنعتهم لهذا المشروع الهمام، وأهّلتهم للقيام بهذه الأعمال الجليلة التي لا يجيد صنعتها إلا أصحاب النفوس الكبار من الإيجابيين.
ويتبدّى السر الكامن وراء ذلك في كل موقف يظهر فيه الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ومن تبعهم، ويظهر الدافع الحقيقي ويتجلى في كل لحظة بناء يعيشها أولئك العظام من أجل مشروعهم الرسالي في الحياة، والذي اتصل فيه علو السماء بامتداد الأرض؛ فوسع العالمين نوراً وضياءً.
إنه الإيمان!!
وليس غير الإيمان دافعاً لمثل هذه الأعمال الجسام، الإيمان الذي تصنعه العلاقة الوثيقة بالله - سبحانه وتعالى -، الذي تجلوه الطهارة التي يسكبها القرآن في صدور المؤمنين المستغفرين بالأسحار، الذي تعلوها هالة النور الرباني المتوهج.
وعلى امتداد هذا الإيمان المشرق في نفوس أصحاب النبي الكريم رضوان الله عليهم نرى كيف بالإيمان يصنع بهم المعجزات، وحضهم على أن يرتقوا أعلى الدرجات ويتعففوا عن وطء أسفل الدركات وسفاسف الأمور.
ومما يؤسف له اليوم أنه لم يعد للإيمان هذه الحظوة من النفوس والموقع الركيز في صدورهم، فلم يعد يحرك أحداً منّا لرفع تفاحة ملقاة على الأرض صيانة لها وحفظاً للنعمة، فيا لله أي وهن هذا؟!
إننا نغفل عن مثير حقيقي بمقدوره أن يصنع بالرجال الأعاجيب، إننا نفرط في طاقة كامنة لو أنها تحركت لأنقذت أمتنا مما تجتر من ذيول الخيبة والهزيمة، ويفك إسارها من ربقة التخلف والرجعية.
فالله الله اسقوا جفاف صدوركم بعذب الإيمان، وازرعوا في ساحات صدوركم الجافة نبتة الإيمان الغضة الطرية وارووها برواء القرآن العذب المشبع بالحياة لعلها تثمر شجرة أصلها ثابت، ومنبتها طاهر، وفرعها في السماء.
" كيف تزيد إيمانك؟ "
لك أن تندم يا من حرم هذا المحرك الحقيقي و " الدينمو " الفعلي لدفع مضخات الإيمان في صدرك؛ فيؤزّك للخيرات، ويزجرك عن المناهي والمنكرات، وهذه فضيلة لا تقوى على معالجتها سوى النفوس العظيمة والهمم الرفيعة، كما يتجدد في قلبك النشاط، وتحيى في ذاتك الطاقات الخاملة بفعل الإيمان والتعلق بالملك الديّان.
إن مواهبك التي غفت بفعل المعاصي المتراكمة ونار إبداعك الذي خبا وأوار تميزك الذي اختفى، لَلإيمان خير من يستنقذ ما بقي منها ويضيء لها طريقها.
فانهل من معين القرآن، وجدد في قلبك الإيمان؛ فالقرآن أعظم مولد للإيمان في النفوس: (وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) الأنفال 2.
تزود فإن خير الزاد التقوى!
إن مسيرة العظماء طويلة مريرة، وإن تصفح واحدة منها ينبيك عن حجم العناء الذي يلاقيه السائر في الطريق لتحقيق ذاته ومقدار المشقة التي تعترض سيره نحو صناعة مشروعه وترسيخ اسمه بماء الذهب السرمدي في سجل العظمة.
وإن من يريد أن يقتفي أثرهم، ويحذوا حذوهم عليه أن يتزود لرحلته هذه، ويتقوى بخير غذاء لمسيرته، انظر إلى المصطفى - صلى الله عليه وسلم - كيف به يجتهد في طاعته وعبادته لله - عز وجل - وهو المغفور له المنصور بعون من الله؛ ولكنه يأبى إلا أن يمنح نفسه حاجتها من الإيمان، ويزودها بما تحتاج إليه أمام جلد الدعوة وثقل الرسالة.
فكان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، وكان جبريل يعارضه بتلاوة القرآن كل عام، ويستغفر في الليلة سبعين مرة وربما أكثر، وينفق من الصدقة أجرى من الريح المرسلة وغير ذلك من ألوان العبادات والقربات، حتى ينشط لما تبقى من مهمته، وينهض لاستكمال رسالته الإنسانية واستيفاء مشروعه الرباني.
ولقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يدركون هذا الأمر جيداً فكانوا يسألون الرسول صلوت الله وسلامه عليه أن يزودهم بما ينفعهم في رحلتهم ثم يوصيهم أن خير الزاد التقوى؛ فالتقط هذه الوصية رعاك الله.
الإيجابيون ربانيون!
إن الذين جعلوا حياتهم مشاريع، لا يتصلون إلا بالمطالب العليا، ولا تعنيهم غير معالي الأمور وكبيرها، فقد جبلت نفوسهم على هكذا رفعة، وهي تتعاهد نفسها دائماً بهذا الشرف الدائم غير المنقطع.
إنهم يتحدثون بلغة العظمة، ويتداول عملهم في سماء عليا؛ لا ترتضي بالدون، ولا تختلط بغير معاني الرفعة والعلو في سماوات القيم والمبادئ الفاضلة، سيما الإيمانيون الذي عقدوا صفقة كتب لها النجاح منذ ولادتها، الإيجابيون الذين تشبعوا بمعاني الدين السمح، وتشربوا الشمائل المحمدية الراقية.
إنهم في بيعة مع الله: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) الفتح 10، هكذا كتب لمن يبايع الله، ويجعل مشروعه ربانياً؛ يظفر بهذا الشرف، وينال هذه المزية، ويتحصل على هذه المرتبة العليّة.
هنيئاً لهم، وطوبى هذا المقام الذي نزلوه، وربح البيع الذي عقدوه مع ملكوت السماء والأرض، والجائزة الجنة.. أعظم سلع الكون وأجودها: (إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ) التوبة 111.
إن الإيجابي الرباني يرتقي في منازل المقربين، وتتهافت عليه البشارات والجوائز حيناً بعد آخر على قدر مسابقته إلى رضوان الله - تعالى -وإجادته لمشروعه على الوجه الذي يرتضيه رب العالمين، ويتفق مع سيرة عظيم البشرية - صلى الله عليه وسلم - حتى يبلغ درجة لا تتخيلها الأفهام، ولا ينالها القاعدون من اليائسين والراضين بالدون (( إن الله - تعالى -قال: وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي عليها وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه)) البخاري.
هلاّ مشروعاً تنال به هذه الدرجة؟ وتتقرب به إلى الله؟ لعله يحبك فيكون بالمكان الذي وعدك به؟
إن الإيجابي الرباني: سماوي يحلق في سماوات الرفعة؛ شأوه عظيم، وقدره رفيع، ومنزلته عالية، لا يخفق جناحه دون ذلك، ولا تهبط به همته إلى سفاسف الأمور ودنيئها.
إن الإيجابي الرباني: صاحب خلقة تشبه عظيم البشرية - صلى الله عليه وسلم - وكفى بهذا شرفاً أن تكون مقتدياً برجل أوقف ساعاته وحياته من أجل رسالته الربانية، ونذر أيامه في سبيل مشروعه البديع، وكان له ذلك، وبلغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار.
فسبحان من رزقه هذه الهمّة!
السلام عليكم ورحمة الله وبركاتة
وهل الحياة وضعت إلا لهم؟! إنهم الحقيقيون بالعيش على وجه البسيطة، من أراد الله منهم أن يعمروا الحياة ويسخّروا ما وضع فيها من أجل الأهداف الأساسية والمقاصد الرئيسة التي من أجلها بسطت الأرض، والتحفت بامتداد السماء، ووتدت بالجبال، وانتشر على صفحتها الأحياء.
يقول الراغب الأصبهاني: " إن هناك ثلاثة مقاصد أساسية للمكلفين:
المقصد الأول: عبادة الله (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الذاريات 56.
المقصد الثاني: الخلافة في الأرض (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) البقرة 30.
المقصد الثالث: العمارة للأرض (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) هود 61، أي طلب منكم أن تعمروها.
انظروا لعظم هذه المقاصد وحجم هذه المطالب التي كلّف بها الإنسان، كيف بمقدور إنسان أن يتحملها ويبادر في إنفاذها إن لم يكن إيجابياً وتقمص هذه الشخصية وتزيّا بحلتها.
هكذا إذا كانت الأهداف عظيمة والمرامي بعيدة عملت من أجلها النفس، وارتفعت بها إلى أرقى معاني العطاء وأسمى صور البذل والتضحية في تفانٍ عجيب يرمي إلى تحقيق هذه المقاصد وإحالتها إلى الواقع.
إن الإيجابيين في الحياة، أصحاب أهداف ضخمة، لا تعترف بالدون، ولا ترضى بالقليل، إن نهمتهم لا تشبعها غير المقاصد العليا، وشهوتهم لا تقضيها غير المرامي السامية، وبقدر عظم الهدف وعلوّه يكون موقع النفس من الحياة ومكانها من سباق الدنيا المحموم وقد قيل: المرء حيث يضع نفسه.
إن الإيجابيين هم الذين فهموا ناموس الحياة وسرّها الدفين، وعملوا على إنفاذه بعد عمل دؤوب لكشفه وفك شفرته، لقد أدركوا ذواتهم وفهموا كيف يتعاملون معها بحرفية متناهية؛ ذلك لأن أعظم المشكلات التي تكون وراء القعود ونكوص الهمم هو عدم فهم الذات.
الإيجابيون من حالفهم التوفيق لا شك، فلا خير للمرء إن لم يكن على اتصال جيد برب السماوات والأرض، لا خير في مشاريعهم إن لم يكن لهم حظ من التوفيق الإلهي؛ فعناية الله ورعايته هي أولى اشتراطات الإيجابية.
الناجح..موفق
أساء ظنه من قال أن سيكون له حظ من الإيجابية وهو ضعيف الصلة بالله - عز وجل - ومخطئ من اعتقد ولو للحظة أن المعرضين عن باب الله سيكتب لهم في ديوان الإبداع مداد، أو يذكر لهم في سجل الآثار اسم.
إن أعظم رافد يدعم كل عمل إيجابي هي هذه الصلة النورانية الراقية، وأعظم نبع ينهل منه المرء معاني البذل والعطاء اللامحدود في سبيل الإيجابية هو هذا النبع الصافي الرقراق الذي لا ينضب والماء الزلال الذي لا يتغير طعمه، ولا يتعكر صفوه.
إن من كان له حظ من العلاقة الوثيقة بملكوت السماوات والأرض له نصيب وافر من الإيجابية المفعمة بروح الإيمان، وقدر واسع من العطاء المشع بمعاني العظمة الإلهية والخير الرباني.
إذا لم يكن عون من الله للفتى *** فأول ما يقضي عليه اجتهاده
وبقدر ما تملك من هذه المحطة التي يتزود منها المؤمن الصادق الذي يفني عمره في خدمة دينه ونفع أهله رفعة أمته وإخلاد اسمه، بقدر ما يتملّى من فيض هذه المحطة، ويعبّ من معينها، يكون بقاء أثره ودوام ذكره ونفع ما يخلّف ويبقي.
هل تعرفون لماذا؟
لأن الإيجابي رجل رباني، من حيث منطلقه، ونعم المنطلق هذا والباعث، فبالله يستعين، وعليه يتكئ ويعتمد، ومنه ينتظر الإثابة، وإليه ينظر ويرتقب، وفيه يعمل ويجتهد.
يتلقى توجيهات ربه بضمير حي وتجاوب فاعل وترحيب حار، ويبادر إلى إنفاذها والإذعان لها، ويسرع إلى إنجازها في تفان متناه وإتقان فذ وإخلاص عميق، كيف لا!! وهو يتحلى بصفة ربانية ويتشبه بخلق إلهي رفيع هو (الإتقان).
إن من يحرم هذا النور العميم والخير الجسيم فقد حرم الخير كله، فإن مفاتح الخير ولمع العلم وكشوف المعرفة ومجامع الأدب وبارقات الفكر وسانحات العقل وصيود الخاطر ومعالم النجابة وملامح الفطنة والمهابة وقسمات الرشد والكياسة هي فيوض ربانية، ومنح إلهية، ونعم سماوية.
يرزق بها من يشاء، ويمنح من يريد، فعلى المرء أن يجدّ في طلبها، ويحث الخطا لنيلها، باسترضاء الله وإجابته إلى ما يدعو، والانتهاء عند أمره بالاستجابة ونهيه بالامتناع.
" الإيمان محرك حقيقي!! "
إن القارئ الفطن والمطلع الفاحص لكتب التاريخ والسيرة النبوية ليذهل من ذلك الجيل الذي صنع على يد أعظم من أنجبتهم البشرية محمد - صلى الله عليه وسلم -.
الجيل الذي تخرج في هذه المدرسة النبوية الراقية، شهادتهم تلك الإنجازات العظيمة التي أبقوها، وإجازتهم ذلك الأثر الذي خلّفوه وراءهم.
ويعجب أشد العجب من أين لهم بهذه القوة النفسية والدافعية الشخصية التي صنعتهم لهذا المشروع الهمام، وأهّلتهم للقيام بهذه الأعمال الجليلة التي لا يجيد صنعتها إلا أصحاب النفوس الكبار من الإيجابيين.
ويتبدّى السر الكامن وراء ذلك في كل موقف يظهر فيه الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ومن تبعهم، ويظهر الدافع الحقيقي ويتجلى في كل لحظة بناء يعيشها أولئك العظام من أجل مشروعهم الرسالي في الحياة، والذي اتصل فيه علو السماء بامتداد الأرض؛ فوسع العالمين نوراً وضياءً.
إنه الإيمان!!
وليس غير الإيمان دافعاً لمثل هذه الأعمال الجسام، الإيمان الذي تصنعه العلاقة الوثيقة بالله - سبحانه وتعالى -، الذي تجلوه الطهارة التي يسكبها القرآن في صدور المؤمنين المستغفرين بالأسحار، الذي تعلوها هالة النور الرباني المتوهج.
وعلى امتداد هذا الإيمان المشرق في نفوس أصحاب النبي الكريم رضوان الله عليهم نرى كيف بالإيمان يصنع بهم المعجزات، وحضهم على أن يرتقوا أعلى الدرجات ويتعففوا عن وطء أسفل الدركات وسفاسف الأمور.
ومما يؤسف له اليوم أنه لم يعد للإيمان هذه الحظوة من النفوس والموقع الركيز في صدورهم، فلم يعد يحرك أحداً منّا لرفع تفاحة ملقاة على الأرض صيانة لها وحفظاً للنعمة، فيا لله أي وهن هذا؟!
إننا نغفل عن مثير حقيقي بمقدوره أن يصنع بالرجال الأعاجيب، إننا نفرط في طاقة كامنة لو أنها تحركت لأنقذت أمتنا مما تجتر من ذيول الخيبة والهزيمة، ويفك إسارها من ربقة التخلف والرجعية.
فالله الله اسقوا جفاف صدوركم بعذب الإيمان، وازرعوا في ساحات صدوركم الجافة نبتة الإيمان الغضة الطرية وارووها برواء القرآن العذب المشبع بالحياة لعلها تثمر شجرة أصلها ثابت، ومنبتها طاهر، وفرعها في السماء.
" كيف تزيد إيمانك؟ "
لك أن تندم يا من حرم هذا المحرك الحقيقي و " الدينمو " الفعلي لدفع مضخات الإيمان في صدرك؛ فيؤزّك للخيرات، ويزجرك عن المناهي والمنكرات، وهذه فضيلة لا تقوى على معالجتها سوى النفوس العظيمة والهمم الرفيعة، كما يتجدد في قلبك النشاط، وتحيى في ذاتك الطاقات الخاملة بفعل الإيمان والتعلق بالملك الديّان.
إن مواهبك التي غفت بفعل المعاصي المتراكمة ونار إبداعك الذي خبا وأوار تميزك الذي اختفى، لَلإيمان خير من يستنقذ ما بقي منها ويضيء لها طريقها.
فانهل من معين القرآن، وجدد في قلبك الإيمان؛ فالقرآن أعظم مولد للإيمان في النفوس: (وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) الأنفال 2.
تزود فإن خير الزاد التقوى!
إن مسيرة العظماء طويلة مريرة، وإن تصفح واحدة منها ينبيك عن حجم العناء الذي يلاقيه السائر في الطريق لتحقيق ذاته ومقدار المشقة التي تعترض سيره نحو صناعة مشروعه وترسيخ اسمه بماء الذهب السرمدي في سجل العظمة.
وإن من يريد أن يقتفي أثرهم، ويحذوا حذوهم عليه أن يتزود لرحلته هذه، ويتقوى بخير غذاء لمسيرته، انظر إلى المصطفى - صلى الله عليه وسلم - كيف به يجتهد في طاعته وعبادته لله - عز وجل - وهو المغفور له المنصور بعون من الله؛ ولكنه يأبى إلا أن يمنح نفسه حاجتها من الإيمان، ويزودها بما تحتاج إليه أمام جلد الدعوة وثقل الرسالة.
فكان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، وكان جبريل يعارضه بتلاوة القرآن كل عام، ويستغفر في الليلة سبعين مرة وربما أكثر، وينفق من الصدقة أجرى من الريح المرسلة وغير ذلك من ألوان العبادات والقربات، حتى ينشط لما تبقى من مهمته، وينهض لاستكمال رسالته الإنسانية واستيفاء مشروعه الرباني.
ولقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يدركون هذا الأمر جيداً فكانوا يسألون الرسول صلوت الله وسلامه عليه أن يزودهم بما ينفعهم في رحلتهم ثم يوصيهم أن خير الزاد التقوى؛ فالتقط هذه الوصية رعاك الله.
الإيجابيون ربانيون!
إن الذين جعلوا حياتهم مشاريع، لا يتصلون إلا بالمطالب العليا، ولا تعنيهم غير معالي الأمور وكبيرها، فقد جبلت نفوسهم على هكذا رفعة، وهي تتعاهد نفسها دائماً بهذا الشرف الدائم غير المنقطع.
إنهم يتحدثون بلغة العظمة، ويتداول عملهم في سماء عليا؛ لا ترتضي بالدون، ولا تختلط بغير معاني الرفعة والعلو في سماوات القيم والمبادئ الفاضلة، سيما الإيمانيون الذي عقدوا صفقة كتب لها النجاح منذ ولادتها، الإيجابيون الذين تشبعوا بمعاني الدين السمح، وتشربوا الشمائل المحمدية الراقية.
إنهم في بيعة مع الله: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) الفتح 10، هكذا كتب لمن يبايع الله، ويجعل مشروعه ربانياً؛ يظفر بهذا الشرف، وينال هذه المزية، ويتحصل على هذه المرتبة العليّة.
هنيئاً لهم، وطوبى هذا المقام الذي نزلوه، وربح البيع الذي عقدوه مع ملكوت السماء والأرض، والجائزة الجنة.. أعظم سلع الكون وأجودها: (إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ) التوبة 111.
إن الإيجابي الرباني يرتقي في منازل المقربين، وتتهافت عليه البشارات والجوائز حيناً بعد آخر على قدر مسابقته إلى رضوان الله - تعالى -وإجادته لمشروعه على الوجه الذي يرتضيه رب العالمين، ويتفق مع سيرة عظيم البشرية - صلى الله عليه وسلم - حتى يبلغ درجة لا تتخيلها الأفهام، ولا ينالها القاعدون من اليائسين والراضين بالدون (( إن الله - تعالى -قال: وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي عليها وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه)) البخاري.
هلاّ مشروعاً تنال به هذه الدرجة؟ وتتقرب به إلى الله؟ لعله يحبك فيكون بالمكان الذي وعدك به؟
إن الإيجابي الرباني: سماوي يحلق في سماوات الرفعة؛ شأوه عظيم، وقدره رفيع، ومنزلته عالية، لا يخفق جناحه دون ذلك، ولا تهبط به همته إلى سفاسف الأمور ودنيئها.
إن الإيجابي الرباني: صاحب خلقة تشبه عظيم البشرية - صلى الله عليه وسلم - وكفى بهذا شرفاً أن تكون مقتدياً برجل أوقف ساعاته وحياته من أجل رسالته الربانية، ونذر أيامه في سبيل مشروعه البديع، وكان له ذلك، وبلغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار.
فسبحان من رزقه هذه الهمّة!