تفتح ورقة بيضاء لتمارس عادة كل يوم؛ تلمح كما لو أن الأسطر تحابق عليك, يستفزك تسكع عقلك في الأزقة, تنادي عليه لينظر ما جلبه لك جنونه من عار, وأنت تلوك عجزك بتدوين أحداث يومك. تلقى عقلك متسكعاً على مقربة مصلى للنساء, تشده من كتفيه, وعلى عجل؛ تجلسه بحضرة الورقة المتعالية عليك بغيابه, تنزع ملابس شتاته, تطالبه بتنفيذ أوامرك, حتى أنه يُوهمك بأنه يُمسك القلم بأصابع طالب يتحدى صعوبة الامتحان, يلتفت إليك, فتحدق بإرتعاشة أصابعك بعكس ما يُهيأ لك, تسمع أنيناً مصدره سِن قلمك, يُغمغم قبالة شتاتك كما لو أنه غريق في بحر, يؤلمك هذا منه؛ تركل مؤخرته, وأنت تتلهف لدماء عفة الورقة وهي تسيل مع اول كلمة مُغادرة عذريتها للأبد, غير أن ما يحدث هو العكس, ترى ورقة تسافح أفكار مخيلتك المتخبطة, تتمرد على قيود أفكارك, تحاصر دماغك بتلافيف أنسجة انتهت صلاحيتها, وكأنها ترفض الهزيمة. تحاول تلافي ذلك؛ تتسلح بترسانة هزائمك المتوالية, تبعد الورقة عن عينيك, تفرك أهدابك كجندي ينهض من الموت، تصفع الورقة بأنفاس قدرتك على معاودة التحدي، تتقدم لفعل هذا, وأنت تعيدها مجدداً لمجال رؤيتك.
ترفع القلم على عبارة تتوسط السطر الأول, تسند ظهرك لانتظار صرخات الورقة مع فقد بكارتها, تحدق بعلامة الاستفهام الملتصقة بالعبارة, تقرأها لسانُ لا يروق لك جنونها, تتمعن بالمكتوب أكثر: لا داعي لأن تكتب شيء!. لا علاقة لك بهذا, وبه يتضح سِرّ تشنج لسانك, ومع اطلالة أحرف باهتة في بداية السطر التالي؛ يرتسم حاجبيك على جبين منهك, وأنت تُدير عينيك على القلم بين أصابعك في الجهة المقابلة. يتلاشى الضباب المحيط بالكلمة الجديدة, بل وتلد كل كلمة مثلها وكأنها تخصك بعرض سينمائي لم تتوافر تقنيته بعد, تلاحق الكلمات المنبثقة من دون أن تهتم لترتيب اصطفافها على رصيف المعنى, ينبهك عقلك لهذا بعد سطرين من ركضك خلفها, وكأنه يرد عليك هزأك به منذ قليل, تدفع تهكمه بصد غباءه, وأنت تحتضن نصر خدعة المنتصر بصبره: على الأقل ليست سطرين كما قلت!. ترد بهذا لتنبه عقلك, وتشرع بقراءة ما يُدعم العنوان أعلى الورقة: لست مجرد ورقة بيضاء كما تظن, هذا ليس انتقاصاً لأوراق كبلتها بقيود نصرك, فجميعها كانت تملك ذات أدوات الحرب خاصتي, إلاّ أنها لم تفعل ما سأقربك منه الآن, وبما أنني لن أكتب نيابة عنك, سأطلب منك فقط بقراءة ما لم تتجرأ على كتابته. تصفق لها دون أن تعرف لماذا تفعل هذا, لكنك تشعر بالرضى إلاّ من نداءات عقلك بإجابة سؤاله, تلتفت إليه بنية إفساد متعتك بما خلصت إليه, تجده واضعاً ساقاً على أخرى بمحاذاة القلم المركون فوق المنضدة, تهز رأسك المزهو بخلوه منه, وأنت تختلق ابتسامة تجاري بها حصار أسئلة نقطة تفتيش ليس فيها من يجيد القراءة, وبنبرة تتصنع أدبها: نعم يا عقلي الرصين سطران بالتمام والكمال, وعليك أن تعود الآن إلى حيث كنت. وكأن هذا ما كان ينتظره منك, يطير بعجلة المسارع للقاء عشيقته, وأنت تجهز أهدابك للولوج بمغارات ارتياحك المفاجئ, تمسك الورقة ثانية على سهم أسفل عبارة اعادت إليك سكينتك, تنزل عينيك بمعيته للأسفل قليلاً, تجد في استقبالك على رأس السهم: لا حاجة لكل ذلك غالباً!. ترخي عنقك لليمين قليلاً, وكأنك تخشى البوح بسؤال يؤكد للورقة غباءك, تختلس نظرة من زاوية العين, كأنها توجب إعادة رأسك لمكانه: لست غبي!. تقرأ هذا كإجابة لسؤال لم تتفوه به, تنطق: إذن!. لا ترى شيئاً يُكتب لبرهة من الوقت, لكنك تسمع تعارك لأصوات يصد أحدها بسالة الآخر على النيل منك بضحكاته الساخرة, يقرفص صمتك في جلب شفقتهم, يرتعش سكونك على عبارة تتلو تلك التي احرقت انصاتك: لست وحدك!. تضحك وأنت تلحظ خطوات تتعمد أن تؤول بك للجنون, تتعالى قهقهاتك, ومع أنك تسمع احتدام خلاف ذات الصوتين, إلاّ أنك لا تستكين لمشاوراتهما كما فعلت منذ قليل. يتنامى شعور لحاقك الكلي بعقلك, غير أن نبرة صوت أجش؛ توقف هلوساتك الصارخة, إلاّ أنك تفشل الامساك, ويلتقي ثباتك بنداءات أحد الصوتين المألوفين لمسامعك, يحقنك بكلمات التحلي بالصبر, يُعرج بك صوب حكاية المهزوم المنتصر, يرفض كل صلواتك لمصافحة حنجرة الصوت المبحوح, يربط أهدابك بسلسلة أوامر تنتهي حلقاتها بطرف لسانه, تمشي عينيك على جسر سهم أكبر من سابقه, وبمجرد أن تصل لأعلى نقطة فيه؛ يُوقف الصوت شد اقتيادك, فترتطم بـ: أحياناً كل هذا غير مهم, كما أنك أيضاً لست وحدك!. تجثو شفتيك عند النقطة وكأنك تتمرن على اعتراض عبوديتك, لكنها سرعان ما تنهض على ظلال أصابع متشنجة تركض صوبها من أعلى الورقة, تغمض عينيك منتظراً عقابها, تبقى كذلك لبعض الوقت, قبل أن تصحو على شد أصابعه للسلسلة المرتخية, تصفعك الورقة بعبارة جديدة على واحد من سطورها: كلكم تفرغون هلوساتكم هُنا, أليس كذلك, لا تجب, مع أن كلاماً كثيراً لم يكن له من داع بين تلك الاسهم, لكنك كغيرك, تكتب على ظهورنا ما تخجل من ممارسته. يفلت استفهام من لسانك: بمعنى!. وبرغم تنبيه الورقة لك؛ إلاّ أن الجواب يأتيك سريعاً, حتى أنك لم تلمح صدى لصوت, ولا حركة لظلال أصابع؛ فقط ترى أحرف ترتص بطابور السطر الأخير, تلملمها ليسهل عليك فهمها من القراءة الأولى, تصرخ: اللعنة عليّ!. وأنت تفهم ما بدا وكأن الورقة تهين من خلاله جرأتك المزهو بها مع كل أوراقك المعفرة بذكرياتك: المشكلة أنك لم تكتب ولو مرة ما يليق بخدش حياء عفة ورقة بيضاء, فكيف بفض بكارتها!. تعتقد أن هذا كل شيء, وأنت تصرخ باللعنات, لكنك تلمح عبارة تتشكل للتو خارج حدود الأسطر, تدرجها خانة التصرفات الطارئة: لست وحدك؛ عليك, وكل من يدينون بدينك. إلاّ أنك لم تفهم شيء, وسهم يتشكل كيفما اتفق؛ يسحبك للورقة التي ما يزال ظهرها ينعم بالبياض, إلاّ من الأسطر النائمة بعرض عمودها الفقري. تجهز نفسك لحيرة لا تقل عن ما حدث خلال صفحة كاملة, غير أن هذا ما لا يحدث, وأنت تصفق لشكوك ما رأيت فيه فعلاً طارئاً, بمجرد أن ترجع للعبارة الأخيرة ثانية؛ لتتبين أن: اللعنات بالطبع. تلتصق بالعبارة الأخيرة إذا ما دققت بالفاصلة المنقوطة هناك.