كان فلان ابن الأمير فلان يتنبل في نفسه بأنه مشتق ممن يضع القوانين لا ممن يخضع لها، فكان تَيَّاهًا صَلِفًا يشمخ على قومه بأنه ابن الأمير، ويختال في الناس بأن له جدا من الأمراء، ويرى من تجبره أن ثيابه على أعطافه كحدود الملكة على المملكة لأن له أصلًا في الملوك.
وكان أبوه من الأمراء الذين وُلدوا وفي دمهم شعاع السيف، وبريق التاج، ونخوة الظفر، وعز القهر والغلبة؛ ولكن زمن الحصار ضرب عليه، وأفضت الدولة إلى غيره، فتراجعت فيه ملكات الحرب من فتح الأرض إلى شراء الأرض، ومن تشييد الإمارات إلى تشييد العمارات، ومن إدارة معركة الأبطال إلى إدارة معركة المال؛ وغبر دهره يملك ويجمع حتى أصبحت دفاتر حسابه كأنها "خريطة" مملكة صغيرة.
وبعض أولاد الأمراء يعرفون أنهم أولاد أمراء، فيكونون من التكبر والغرور كأنما رضوا من الله أن يرسلهم إلى هذه الدنيا ولكن بشروط.
وانتقل الأمير البخيل إلى رحمة الله، وترك المال وأخذ معه الأرقام وحدها يحاسب عنها، فورثه ابنه وأمر يده في ذلك المال يبعثره؛ وكانت الأقدار قد كتبت عليه هذه الكلمة: غير قابل للإحسان. فمحتها بعد موت أبيه، وكتبت في مكانها هذه الكلمة: جمع للشيطان.
أما الشيطان فكان له عمل خاص في خدمة هذا الشاب، كعمل خازن الثياب لسيده، غير أنه لا يلبسه ثيابًا بل أفكارًا وآراء وأخيلة. وكان يجهد أن يُدخل الدنيا كلها إلى أعصابه ليخرج منها دنيا جديدة مصنوعة لهذه الأعصاب خاصة، وهي أعصاب مريضة ثائرة متلهبة لا يكفيها ما يكفي غيرها فلا تبرح تسأل الشيطان بين الحين والحين: ألا تُوجد لذة جديدة غير معروفة؟ ألا يستطيع إبليس القرن العشرين أن يخترع لذة مبتكرة؟ ألا تكون الحياة إلا على هذه الوتيرة من صبحها لصبحها؟
كان الشاب كالذي يريد من إبليس أن يخترع كأسًا تسع نهرًا من الخمر، أو يجد له امرأة واحدة وفيها كل فنون النساء واختلافهن. وكان يريد من الشيطان أن يعينه في اللذة على الاستغراق الروحاني ويغمره بمثل التجليات القدسية التي تنتهي إليها النفس من حدة الطرب وحدة الشوق، وذلك فوق طاقة إبليس، ومن ثم كان معه في جهد عظيم حتى ضجر منه ذات مرة فهمّ أن يرفع يده عنه ويدعه يدخل إلى المسجد فيصلي مع بعض الأمراء الصالحين.
وهؤلاء الفساق الكثيرو المال إنما يعيشون بالاستطراف من هذه الدنيا؛ فهمهم دائمًا الألذ والأجمل والأغلى؛ ومتى انتهت فيهم اللذة منتهاها ولم تجد عاطفتهم من اللذات الجديدة ما يسعدها، ضاقت بهم فظهرت مظهر الذي يحاول أن ينتحر؛ وذلك هو الملل الذي يُبتلون به. والفاسق الغني حين يمل من لذاته يصبح شأنه مع نفسه كالذي يكون في نفق تحت الأرض, ويريد هناك سماء وجوًّا يطير فيهما بالطيارة.
قالوا: واعترض ابن الأمير ذات يوم شحاذ مريض قد أسن وعجز, يتحامل بعضه على بعض, فسأله أن يحسن إليه وذكر عوزه واختلاله، وجعل يبثه من دموعه وألفاظه. وكان إبليس في تلك الساعة قد صرف خواطر الشاب إلى إحدى الغانيات الممتنعات عليه، وقد ابتاع لها حلية ثمينة اشتط بائعها في الثمن حتى بلغ به عشرة آلاف دينار، فهو يريد أن يهديها إليها كأنها قدر من قادر. وقطع عليه الشحاذ المسكين أفكاره المضيئة في الشخص المضيء، فكان إهانة لخياله السامي. ووجد في نفسه غضاضة من رؤية وجهه، واشمأز في عروقه دم الإمارة، وتحركت الوراثة الحربية في هذا الدم.
ثم ألقى الشيطان إلقاءه عليه، فإذا هو يرى صاحب الوجه القذر كأنما يتهكم به يقول له: أنت أمير يبحث الناس عن الأمير الذي فيه فلا يجدون إلا الشيطان الذي فيه. وليس فيك من الإمارة إلا مثل ما يكون من التاريخ في الموضع الأثري الخرب. ولن تكون أميرًا بشهادة عشرة آلاف دينار عند مُومِس، ولكن بشهادة هذا المال عند عشرة آلاف فقير. أنت أمير, فهل تثبت الحياة أنك أمير أو هذا معنى في كلمة من اللغة؟ إن كانت الحياة فأين أعمالك، وإن اللغة فهذه لفظة بائدة تدل في عصور الانحطاط على قسط حاملها من الاستبداد والطغيان والجبروت، كأن الاستبداد بالشعب غنيمة يتناهبها عظماؤه، فقسم منها في الحاكم وقسم في شبه الحاكم يترجم عنه في اللغة بلقب أمير.
ألا قل للناس أيها الأمير: إن لقبي هذا إنما هو تعبير الزمن عما كان لأجدادي من الحق في قتل الناس وامتهانهم.
وكان هذا كلامًا بين وجه الشحاذ وبين نفس ابن الأمير في حالة بخصوصها من أحوال النفس، فلا جرم أهين الشحاذ وطرد ومضى يدعو بما يدعو.
ونام ابن الأمير تلك الليلة فكانت خيالته1 من دنيا ضميره وضمير الشحاذ, فرأي فيما يرى النائم أن ملكًا من الملائكة يهتف به:
ويلك! لقد طردتَ المسكين تخشى أن تنالك منه جراثيم تمرض بها، وما علمت أن في كل سائل فقير جراثيم أخرى تمرض بها النعمة؛ فإن أكرمته بقيت فيه، وإن أهنته نفضها عليك. لقد هلكت اليوم نعمتك أيها الأمير، واسترد العارية صاحبها، وأكلت الحوادث مالك فأصبحت فقيرًا محتاجًا تروم الكسرة من الخبز فلا تتهيأ لك إلا بجهد وعمل ومشقة؛ فاذهب فاكدح لعيشك في هذه الدنيا، فما لأبيك حق على الله أن تكون عند الله أميرًا.
قالوا: وينظر ابن الأمير فإذا كل ما كان لنفسه قد تركه حين تركه المال، وإذا الإمارة كانت وهمًا فرضه على الناس قانون العادة، وإذا التعاظم والكبرياء والتجبر ونحوها إنما كانت مكرًا من المكر لإثبات هذا الظاهر والتعزز به. وينظر ابن الأمير، فإذا هو بعد ذلك صعلوك أبتر معدم رث الهيئة كذلك الشحاذ، فيصيح مغتاظًا: كيف أهملتني الأقدار وأنا ابن الأمير؟
قالوا: ويهتف به ذلك الملك: ويحك, إن الأقدار لا تدلل أحدًا، لا ملكًا ولا ابن ملك، ولا سوقيًّا ولا ابن سوقي، ومتى صرتم جميعًا إلى التراب فليس في التراب عظم يقول لعظم آخر: أيها الأمير.
قالوا: وفكر الشاب المسكين في صواحبه من النساء، وعندهن شبابه وإسرافه، ونفقاته الواسعة، فقال في نفسه: أذهب لإحداهن؛ وأخذ سَمْتَه إليها، فما كادت تعرفه عيناها في أسماله وبذاذته وفقره حتى أمرت به فجُر بيديه ودُفع في قفاه. ولكن دم الإمارة نزا في وجهه غضبًا، وتحركت فيه الوراثة الحربية، فصاح وأجلب واجتمع الناس عليه واضطربوا، وماج بعضهم في بعض. فبينا هو في شأنه حانت منه التفاتة فأبصر غلامًا قد دخل في غمار الناس، فدس يده في جيب أحدهم فنشل كيسه ومضى.
قالوا: وجرى في وهم ابن الأمير أن يلحق بالغلام فيكبسه كبسة الشرطي وينتزع منه الكيس وينتفع بما فيه، فتسلل من الزحام وتبع الصبي حتى أدركه ثم كبسه وأخذ الكيس منه وأخرج الكنز، فإذا ليس فيه إلا خاتم وحجاب وبعض خرَزَات مما يتبرك العامة بحمله، ومفتاح صغير.
فامتلأ غيظًا وفار دم الإمارة وتحركت الوراثة الحربية التي فيه. وألم الصبي بما في نفسه، وحدس على أنه رجل أَفَّاق متبطل، ولا نفاذ له في صناعة يرتزق منها، فرثى لفقره وجهله ودعاه إلى أن يعلِّمه السرقة وأن يأخذه إلى مدرستها. وقال: إن لنا مدرسة، فإذا دخلت القسم الإعدادي منها تعلمت كيف تحمل المكتل1 فتذهب كأنك تجمع فيه الخِرَق البالية من الدور حتى إذا سنحت لك غفلة انسللتَ إلى دار منها، فسرقت ما تناله يدك من ثوب أو متاع، ولا تزال في هذا الباب من الصنعة حتى تحكمه، ومتى حذقته ومهرت فيه انتقلت إلى القسم الثانوي.
فصاح ابن الأمير: اغرب عني، عليك وعليك، أخزاك الله! ولعن الله الإعدادي والثانوي معًا.
ثم إنه رمى الكيس في وجه الغلام وانطلق، فبينا هو يمشي وقد توزعته الهموم، أنشأ يفكر فيما كان يراه من المكدِّين، وتلك العلل التي ينتحلونها للكُدْية كالذي يتعامى والذي يتعارج والذي يحدث في جسمه الآفة؛ ولكن دم الإمارة اشمأز في عروقه وتحركت فيه الوراثة الحربية! وبَصُر بشاب من أبناء الأغنياء تنطق عليه النعمة فتعرض لمعروفه، وأفضى إليه بهمه، وشكا ما نزل به ثم قال: وإني قد أَمَّلتك وظني بك أن تصطفيني لمنادمتك أو تلحقني بخدمتك، وما أريد إلا الكَفَاف من العيش، فإن لم تبلغ بي، فالقليل الذي يعيش به المقل. وصعَّد فيه الشاب وصوَّب ثم قال له: أتحسن أن تلطُف في حاجتي؟ قال: سأبلغ في حاجتك ما تحب. قال الشاب: ألك سابقة في هذا؟ أكنت قَوَّادًا؟ أتعرف كثيرات منهن؟
فانتفض غضبًا وهَمَّ أن يبطش بالفتى لولا خوفه عاقبة الجريمة، فاستخذى ومضى لوجهه، وكان قد بلغ سوقًا فأمَّل أن يجد عملًا في بعض الحوانيت، غير أن أصحابها جعلوا يزجرونه مرة ويطردونه مرة، إذ وقعت به ظِنَّة التلصص، وكادوا يسلمونه إلى الشرطي فمضى هاربًا، وقد أجمع أن ينتحر ليقتل نفسه ودهره وإمارته وبؤسه جميعًا.
قالوا: ومر في طريقه إلى مصرعه بامرأة تبيع الفُجْل والبصل والكُرَّاث، وهي بادنة وضيئة ممتلئة الأعلى والأسفل، وعلى وجهها مَسْحة إغراء، فذكر غَزَله وفتنته واستغواءه للنساء، ونازعته النفس، وحسب المرأة تكون له معاشًا ولهوًا، وظنها لا تعجزه ولا تفوته وهو في هذا الباب خرّاج ولّاج منذ نشأ. غير أن ما كاد يراودها حتى ابتدرته بلطة أظلم لها الجو في عينه ثم هرت في وجهه هريرًا منكرًا واستعْدَتْ عليه السابلة فأطافوا به وأخذه الصفح بما قدم وما حدث، وما زالوا يتعاورونه حتى وقع مغشيًّا عليه.
ورأى في غشيته ما رأى من تمام هذا الكرب، فضُرب وحبس وابتلي بالجنون وأرسل إلى المارستان، وساح في مصائب العالم، وطاف على نكبات الأمراء والسوقة بما يعي وما لا يعي، ثم رأى أنه أفاق من الإغماء, فإذا هو قد استيقظ من نومه على فراشه الوثير.
ويا ليت من يدري بعد هذا! أغدا ابن الأمير على المسجد وأقبل على الفقراء يحسن إليهم، أم غدا على صاحبته التي امتنعت عليه فابتاع لها الحلية بعشرة آلاف دينار؟
يا ليت من يدري! فإن الكتاب الذي نقلنا القصة عنه لم يذكر من هذا شيئًا, بل قطع الخبر عندما انقطع الصفع.
وكان أبوه من الأمراء الذين وُلدوا وفي دمهم شعاع السيف، وبريق التاج، ونخوة الظفر، وعز القهر والغلبة؛ ولكن زمن الحصار ضرب عليه، وأفضت الدولة إلى غيره، فتراجعت فيه ملكات الحرب من فتح الأرض إلى شراء الأرض، ومن تشييد الإمارات إلى تشييد العمارات، ومن إدارة معركة الأبطال إلى إدارة معركة المال؛ وغبر دهره يملك ويجمع حتى أصبحت دفاتر حسابه كأنها "خريطة" مملكة صغيرة.
وبعض أولاد الأمراء يعرفون أنهم أولاد أمراء، فيكونون من التكبر والغرور كأنما رضوا من الله أن يرسلهم إلى هذه الدنيا ولكن بشروط.
وانتقل الأمير البخيل إلى رحمة الله، وترك المال وأخذ معه الأرقام وحدها يحاسب عنها، فورثه ابنه وأمر يده في ذلك المال يبعثره؛ وكانت الأقدار قد كتبت عليه هذه الكلمة: غير قابل للإحسان. فمحتها بعد موت أبيه، وكتبت في مكانها هذه الكلمة: جمع للشيطان.
أما الشيطان فكان له عمل خاص في خدمة هذا الشاب، كعمل خازن الثياب لسيده، غير أنه لا يلبسه ثيابًا بل أفكارًا وآراء وأخيلة. وكان يجهد أن يُدخل الدنيا كلها إلى أعصابه ليخرج منها دنيا جديدة مصنوعة لهذه الأعصاب خاصة، وهي أعصاب مريضة ثائرة متلهبة لا يكفيها ما يكفي غيرها فلا تبرح تسأل الشيطان بين الحين والحين: ألا تُوجد لذة جديدة غير معروفة؟ ألا يستطيع إبليس القرن العشرين أن يخترع لذة مبتكرة؟ ألا تكون الحياة إلا على هذه الوتيرة من صبحها لصبحها؟
كان الشاب كالذي يريد من إبليس أن يخترع كأسًا تسع نهرًا من الخمر، أو يجد له امرأة واحدة وفيها كل فنون النساء واختلافهن. وكان يريد من الشيطان أن يعينه في اللذة على الاستغراق الروحاني ويغمره بمثل التجليات القدسية التي تنتهي إليها النفس من حدة الطرب وحدة الشوق، وذلك فوق طاقة إبليس، ومن ثم كان معه في جهد عظيم حتى ضجر منه ذات مرة فهمّ أن يرفع يده عنه ويدعه يدخل إلى المسجد فيصلي مع بعض الأمراء الصالحين.
وهؤلاء الفساق الكثيرو المال إنما يعيشون بالاستطراف من هذه الدنيا؛ فهمهم دائمًا الألذ والأجمل والأغلى؛ ومتى انتهت فيهم اللذة منتهاها ولم تجد عاطفتهم من اللذات الجديدة ما يسعدها، ضاقت بهم فظهرت مظهر الذي يحاول أن ينتحر؛ وذلك هو الملل الذي يُبتلون به. والفاسق الغني حين يمل من لذاته يصبح شأنه مع نفسه كالذي يكون في نفق تحت الأرض, ويريد هناك سماء وجوًّا يطير فيهما بالطيارة.
قالوا: واعترض ابن الأمير ذات يوم شحاذ مريض قد أسن وعجز, يتحامل بعضه على بعض, فسأله أن يحسن إليه وذكر عوزه واختلاله، وجعل يبثه من دموعه وألفاظه. وكان إبليس في تلك الساعة قد صرف خواطر الشاب إلى إحدى الغانيات الممتنعات عليه، وقد ابتاع لها حلية ثمينة اشتط بائعها في الثمن حتى بلغ به عشرة آلاف دينار، فهو يريد أن يهديها إليها كأنها قدر من قادر. وقطع عليه الشحاذ المسكين أفكاره المضيئة في الشخص المضيء، فكان إهانة لخياله السامي. ووجد في نفسه غضاضة من رؤية وجهه، واشمأز في عروقه دم الإمارة، وتحركت الوراثة الحربية في هذا الدم.
ثم ألقى الشيطان إلقاءه عليه، فإذا هو يرى صاحب الوجه القذر كأنما يتهكم به يقول له: أنت أمير يبحث الناس عن الأمير الذي فيه فلا يجدون إلا الشيطان الذي فيه. وليس فيك من الإمارة إلا مثل ما يكون من التاريخ في الموضع الأثري الخرب. ولن تكون أميرًا بشهادة عشرة آلاف دينار عند مُومِس، ولكن بشهادة هذا المال عند عشرة آلاف فقير. أنت أمير, فهل تثبت الحياة أنك أمير أو هذا معنى في كلمة من اللغة؟ إن كانت الحياة فأين أعمالك، وإن اللغة فهذه لفظة بائدة تدل في عصور الانحطاط على قسط حاملها من الاستبداد والطغيان والجبروت، كأن الاستبداد بالشعب غنيمة يتناهبها عظماؤه، فقسم منها في الحاكم وقسم في شبه الحاكم يترجم عنه في اللغة بلقب أمير.
ألا قل للناس أيها الأمير: إن لقبي هذا إنما هو تعبير الزمن عما كان لأجدادي من الحق في قتل الناس وامتهانهم.
وكان هذا كلامًا بين وجه الشحاذ وبين نفس ابن الأمير في حالة بخصوصها من أحوال النفس، فلا جرم أهين الشحاذ وطرد ومضى يدعو بما يدعو.
ونام ابن الأمير تلك الليلة فكانت خيالته1 من دنيا ضميره وضمير الشحاذ, فرأي فيما يرى النائم أن ملكًا من الملائكة يهتف به:
ويلك! لقد طردتَ المسكين تخشى أن تنالك منه جراثيم تمرض بها، وما علمت أن في كل سائل فقير جراثيم أخرى تمرض بها النعمة؛ فإن أكرمته بقيت فيه، وإن أهنته نفضها عليك. لقد هلكت اليوم نعمتك أيها الأمير، واسترد العارية صاحبها، وأكلت الحوادث مالك فأصبحت فقيرًا محتاجًا تروم الكسرة من الخبز فلا تتهيأ لك إلا بجهد وعمل ومشقة؛ فاذهب فاكدح لعيشك في هذه الدنيا، فما لأبيك حق على الله أن تكون عند الله أميرًا.
قالوا: وينظر ابن الأمير فإذا كل ما كان لنفسه قد تركه حين تركه المال، وإذا الإمارة كانت وهمًا فرضه على الناس قانون العادة، وإذا التعاظم والكبرياء والتجبر ونحوها إنما كانت مكرًا من المكر لإثبات هذا الظاهر والتعزز به. وينظر ابن الأمير، فإذا هو بعد ذلك صعلوك أبتر معدم رث الهيئة كذلك الشحاذ، فيصيح مغتاظًا: كيف أهملتني الأقدار وأنا ابن الأمير؟
قالوا: ويهتف به ذلك الملك: ويحك, إن الأقدار لا تدلل أحدًا، لا ملكًا ولا ابن ملك، ولا سوقيًّا ولا ابن سوقي، ومتى صرتم جميعًا إلى التراب فليس في التراب عظم يقول لعظم آخر: أيها الأمير.
قالوا: وفكر الشاب المسكين في صواحبه من النساء، وعندهن شبابه وإسرافه، ونفقاته الواسعة، فقال في نفسه: أذهب لإحداهن؛ وأخذ سَمْتَه إليها، فما كادت تعرفه عيناها في أسماله وبذاذته وفقره حتى أمرت به فجُر بيديه ودُفع في قفاه. ولكن دم الإمارة نزا في وجهه غضبًا، وتحركت فيه الوراثة الحربية، فصاح وأجلب واجتمع الناس عليه واضطربوا، وماج بعضهم في بعض. فبينا هو في شأنه حانت منه التفاتة فأبصر غلامًا قد دخل في غمار الناس، فدس يده في جيب أحدهم فنشل كيسه ومضى.
قالوا: وجرى في وهم ابن الأمير أن يلحق بالغلام فيكبسه كبسة الشرطي وينتزع منه الكيس وينتفع بما فيه، فتسلل من الزحام وتبع الصبي حتى أدركه ثم كبسه وأخذ الكيس منه وأخرج الكنز، فإذا ليس فيه إلا خاتم وحجاب وبعض خرَزَات مما يتبرك العامة بحمله، ومفتاح صغير.
فامتلأ غيظًا وفار دم الإمارة وتحركت الوراثة الحربية التي فيه. وألم الصبي بما في نفسه، وحدس على أنه رجل أَفَّاق متبطل، ولا نفاذ له في صناعة يرتزق منها، فرثى لفقره وجهله ودعاه إلى أن يعلِّمه السرقة وأن يأخذه إلى مدرستها. وقال: إن لنا مدرسة، فإذا دخلت القسم الإعدادي منها تعلمت كيف تحمل المكتل1 فتذهب كأنك تجمع فيه الخِرَق البالية من الدور حتى إذا سنحت لك غفلة انسللتَ إلى دار منها، فسرقت ما تناله يدك من ثوب أو متاع، ولا تزال في هذا الباب من الصنعة حتى تحكمه، ومتى حذقته ومهرت فيه انتقلت إلى القسم الثانوي.
فصاح ابن الأمير: اغرب عني، عليك وعليك، أخزاك الله! ولعن الله الإعدادي والثانوي معًا.
ثم إنه رمى الكيس في وجه الغلام وانطلق، فبينا هو يمشي وقد توزعته الهموم، أنشأ يفكر فيما كان يراه من المكدِّين، وتلك العلل التي ينتحلونها للكُدْية كالذي يتعامى والذي يتعارج والذي يحدث في جسمه الآفة؛ ولكن دم الإمارة اشمأز في عروقه وتحركت فيه الوراثة الحربية! وبَصُر بشاب من أبناء الأغنياء تنطق عليه النعمة فتعرض لمعروفه، وأفضى إليه بهمه، وشكا ما نزل به ثم قال: وإني قد أَمَّلتك وظني بك أن تصطفيني لمنادمتك أو تلحقني بخدمتك، وما أريد إلا الكَفَاف من العيش، فإن لم تبلغ بي، فالقليل الذي يعيش به المقل. وصعَّد فيه الشاب وصوَّب ثم قال له: أتحسن أن تلطُف في حاجتي؟ قال: سأبلغ في حاجتك ما تحب. قال الشاب: ألك سابقة في هذا؟ أكنت قَوَّادًا؟ أتعرف كثيرات منهن؟
فانتفض غضبًا وهَمَّ أن يبطش بالفتى لولا خوفه عاقبة الجريمة، فاستخذى ومضى لوجهه، وكان قد بلغ سوقًا فأمَّل أن يجد عملًا في بعض الحوانيت، غير أن أصحابها جعلوا يزجرونه مرة ويطردونه مرة، إذ وقعت به ظِنَّة التلصص، وكادوا يسلمونه إلى الشرطي فمضى هاربًا، وقد أجمع أن ينتحر ليقتل نفسه ودهره وإمارته وبؤسه جميعًا.
قالوا: ومر في طريقه إلى مصرعه بامرأة تبيع الفُجْل والبصل والكُرَّاث، وهي بادنة وضيئة ممتلئة الأعلى والأسفل، وعلى وجهها مَسْحة إغراء، فذكر غَزَله وفتنته واستغواءه للنساء، ونازعته النفس، وحسب المرأة تكون له معاشًا ولهوًا، وظنها لا تعجزه ولا تفوته وهو في هذا الباب خرّاج ولّاج منذ نشأ. غير أن ما كاد يراودها حتى ابتدرته بلطة أظلم لها الجو في عينه ثم هرت في وجهه هريرًا منكرًا واستعْدَتْ عليه السابلة فأطافوا به وأخذه الصفح بما قدم وما حدث، وما زالوا يتعاورونه حتى وقع مغشيًّا عليه.
ورأى في غشيته ما رأى من تمام هذا الكرب، فضُرب وحبس وابتلي بالجنون وأرسل إلى المارستان، وساح في مصائب العالم، وطاف على نكبات الأمراء والسوقة بما يعي وما لا يعي، ثم رأى أنه أفاق من الإغماء, فإذا هو قد استيقظ من نومه على فراشه الوثير.
ويا ليت من يدري بعد هذا! أغدا ابن الأمير على المسجد وأقبل على الفقراء يحسن إليهم، أم غدا على صاحبته التي امتنعت عليه فابتاع لها الحلية بعشرة آلاف دينار؟
يا ليت من يدري! فإن الكتاب الذي نقلنا القصة عنه لم يذكر من هذا شيئًا, بل قطع الخبر عندما انقطع الصفع.