كانت جَلْوَة العروس كأنها تصنيف من حلم، توافت عليه أخيلة السعادة فأبدعت إبداعها فيه، حتى إذا اتسق وتم، نقلته السعادة إلى الحياة في يوم من أيامها الفردة التي لا يتفق منها في العمر الطويل إلا العدد القليل، لتحقق للحي وجود حياته بسحرها وجمالها، وتعطيه فيما يُنسَى ما لا يُنسى.
خرج الحلم السعيد من تحت النوم إلى اليقظة، وبرز من الخيال إلى العين، وتمثل قصيدة بارعة جعلت كل ما في المكان يحيا حياة الشعر؛ فالأنوار نساء، والنساء أنوار، والأزهار أنوار ونساء، والموسيقى بين ذلك تتمّم من كل شيء معناه، والمكان وما فيه، وزن في وزن، ونغم في نغم، وسحر في سحر.
ورأيت كأنما سُحرت قطعة من سماء الليل، فيها دارة القمر، وفيها نثرة من النجوم الزُّهْر، فنزلت فحلت في الدار، يتوضَّحْنَ ويأتلقْنَ من الجمال والشعاع، وفي حسن كل منهم مادة فجر طالع، فكُنَّ نساء الجلوة وعروسها.
ورأيت كأنما سُحر الربيع، فاجتمع في عرش أخضر، قد رُصِّع بالورد الأحمر، وأقيم في صدر البَهْو ليكون منصة للعروس، وقد نسقت الأزهار في سمائه وحواشيه على نظمين: منهما مفصل ترى فيه بين الزهرتين من اللون الواحد زهرة تخالف لونهما؛ ومنهما مكدس بعضه فوق بعض، من لون متشابه أو متقارب، فبدا كأنه عش طائر ملكي من طيور الجنة أبدع في نسجه وترصيعه بأشجار سقى الكوثر أغصانها.
وقامت في أرض العرش تحت أقدام العروسين، ربوتان من أفانين الزهر المختلفة ألوانه، يحملهما خَمْل من ناعم النسيج الأخضر على غصونه اللُّدْن تتهافت من رقتها ونعومتها.
وعُقِدَ فوق هذا العرش تاج كبير من الورد النادر، كأنما نُزع عن مَفْرِق مَلِك الزمن الربيعي؛ وتنظر إليه يسطع في النور بجماله الساحر، سطوعًا يخيل إليك أن أشعة من الشمس التي ربَّت هذا الورد لا تزال عالقة به، وتراه يزدهي جلالًا، كأنما أدرك أنه في موضعه رمز مملكة إنسانية جديدة، تألفت من عروسين كريمين, ولاح لي مرارًا أن التاج يضحك ويستحي ويتدلل، كأنما عرف أنه وحده بين هذه الوجوه الحِسَان يمثل وجه الورد.
ونُصَّ على العرش كرسيان يتوهج لون الذهب فوقهما، ويكسوهما طراز أخضر تلمع نضارته بِشْرًا، حتى لتحسب أنه هو أيضًا قد نالته من هذه القلوب الفَرِحة لمسة من فرحها الحي.
وتدلت على العرش قلائد المصابيح، كأنها لؤلؤ تخلَّق في السماء لا في البحر، فجاء من النور لا من الدر؛ وجاء نورًا من خاصته أنه متى استضاء في جو العروس أضاء الجو والقلوب جميعًا.
وأتى العروسان إلى عرش الورد، فجلسا جِلْسة كوكبين حدودهما النور والصفاء؛ وأقبلت العذارى يتخطَّرْنَ في الحرير الأبيض كأنه من نور الصبح، ثم وقفن حافَّات حول العرش، حاملات في أيديهن طاقات من الزّنبق، تراها عَطِرة بيضاء ناضرة حَيِيَّة، كأنها عذارى مع عذارى، وكأنما يحملن في أيديهن من هذا الزنبق الغض معاني قلوبهن الطاهرة؛ هذه القلوب التي كانت مع المصابيح مصابيح أخرى فيها نورها الضاحك.
واقتعدت دَرَجَ العرش تحت ربوتي الزهر ودون أقدام العروسين, طفلة صغيرة كالزهرة البيضاء تحمل طفولتها، فكانت من العرش كله كالماسة المدلَّاة من واسطة العِقْد، وجعلت بوجهها للزهر كله تمامًا وجمالًا، حتى ليظهر من دونها كأنه غضبان مُنْزَوٍ لا يريد أن يُرَى.
وكان ينبعث من عينيها فيما حولها تيار من أحلام الطفولة جعل المكان بمن فيه كأن له روح طفل بغتته مسرة جديدة.
وكانت جالسة جِلْسة شِعْر تمثل الحياة الهنيئة المبتكرة لساعتها ليس لها ماضٍ في دنيانا.
ولو أن مبدعًا افتَنّ في صنع تمثال للنية الطاهرة، وجيء به في مكانها، وأُخذت هي في مكانه لتشابها وتشاكل الأمر.
وكان وجودها على العرش دعوة للملائكة أن تحضر الزفاف وتباركه.
وكانت بصغرها الظريف الجميل تعطي لكل شيء تمامًا، فيرى أكبر مما هو، وأكثر مما هو في حقيقته. كانت النقطة التي استعلنت في مركز الدائرة، ظهورها على صغرها هو ظهور الإحكام والوزن والانسجام في المحيط كله.
لا يكون السرور دائمًا إلا جديدًا على النفس، ولا سرور للنفس إلا من جديد على حالة من أحوالها؛ فلو لم يكن في كل دينار قوة جديدة غير التي في مثله لما سُر بالمال أحد، ولا كان له الخطر الذي هو له؛ ولو لم يكن لكل طعام جوع يورده جديدًا على المعدة لما هنأ ولا مرأ؛ ولو لم يكن الليل بعد نهار، والنهار بعد ليل، والفصول كلها نقيضًا على نقيضه، وشيئًا مختلفًا -على شيء مختلف- لما كان في السماء والأرض جمال، ولا منظر جمال، ولا إحساس بهما؛ والطبيعة التي لا تفلح في جعلك معها طفلًا تكون جديدًا على نفسك, لن تفلح في جعلك مسرورًا بها لتكون هي جديدة عليك.
وعرش الورد كان جديدًا عند نفسي على نفسي، وفي عاطفتي على عاطفتي، ومن أيامي على أيامي؛ نزل صباح يومه في قلبي بروح الشمس، وجاء مساء ليلته لقلبي بروح القمر؛ وكنت عنده كالسماء أتلألأ بأفكاري كما تتلألأ بنجومها؛ وقد جعلتني أمتد بسروري في هذه الطبيعة كلها، إذ قدرت على أن أعيش يومًا في نفسي؛ ورأيت وأنا في نفسي أن الفرح هو سر الطبيعة كلها، وأن كل ما خلق الله جمال في جمال، فإنه تعالى نور السموات والأرض، وما يجيء الظلام مع نوره، ولا يجيء الشر مع أفراح الطبيعة إلا من محاولة الفكر الإنساني خلق أوهامه في الحياة، وإخراجه النفس من طبائعها، حتى أصبح الإنسان كأنما يعيش بنفس يحاول أن يصنعها صناعة، فلا يصنع إلا أن يزيغ بالنفس التي فطرها الله.
يا عجبًا! ينفر الإنسان من كلمات الاستعباد، والضَّعة، والذلة، والبؤس، والهم، وأمثالها، وينكرها ويردها، وهو مع ذلك لا يبحث لنفسه في الحياة إلا عن معانيها.
إن يومًا كيوم عرش الورد لا يكون من أربع وعشرين ساعة، بل من أربعة وعشرين فرحًا؛ لأنه من الأيام التي تجعل الوقت يتقدم في القلب لا في الزمن، ويكون بالعواطف لا بالساعات، ويتواتر على النفس بجديدها لا بقديمها.
كان الشباب في موكب نصره، وكانت الحياة في ساعة صلح مع القلوب، حتى اللغة نفسها لم تكن تلقي كلماتها إلا ممتلئة بالطرب والضحك والسعادة، آتية من هذه المعاني دون غيرها، مصورة على الوجوه إحساسها ونوازعها، وكل ذلك سحر عرش الورد، تلك الحديقة الساحرة المسحورة، التي كانت النسمات تأتي من الجو ترفرف حولها متحيرة كأنما تتساءل: أهذه حديقة خُلقت بطيور إنسانية؛ أم هي شجرة ورد من الجنة بمن يتفيَّأْنَ ظلها ويتنسَّمْنَ شذاها من الحُور؛ أم ذاك منبع وردي عطري نوراني لحياة هذه المَلِكة الجالسة على العرش!
يا نسمات الليل الصافية صفاء الخير، أسأل الله أن تنبع هذه الحياة المقبلة في جمالها وأثرها وبركتها من مثل الورد المبهج، والعطر المنعش، والضوء المحيِي؛ فإن هذه العروس المعتلية عرش الورد:
هي ابنتي.
خرج الحلم السعيد من تحت النوم إلى اليقظة، وبرز من الخيال إلى العين، وتمثل قصيدة بارعة جعلت كل ما في المكان يحيا حياة الشعر؛ فالأنوار نساء، والنساء أنوار، والأزهار أنوار ونساء، والموسيقى بين ذلك تتمّم من كل شيء معناه، والمكان وما فيه، وزن في وزن، ونغم في نغم، وسحر في سحر.
ورأيت كأنما سُحرت قطعة من سماء الليل، فيها دارة القمر، وفيها نثرة من النجوم الزُّهْر، فنزلت فحلت في الدار، يتوضَّحْنَ ويأتلقْنَ من الجمال والشعاع، وفي حسن كل منهم مادة فجر طالع، فكُنَّ نساء الجلوة وعروسها.
ورأيت كأنما سُحر الربيع، فاجتمع في عرش أخضر، قد رُصِّع بالورد الأحمر، وأقيم في صدر البَهْو ليكون منصة للعروس، وقد نسقت الأزهار في سمائه وحواشيه على نظمين: منهما مفصل ترى فيه بين الزهرتين من اللون الواحد زهرة تخالف لونهما؛ ومنهما مكدس بعضه فوق بعض، من لون متشابه أو متقارب، فبدا كأنه عش طائر ملكي من طيور الجنة أبدع في نسجه وترصيعه بأشجار سقى الكوثر أغصانها.
وقامت في أرض العرش تحت أقدام العروسين، ربوتان من أفانين الزهر المختلفة ألوانه، يحملهما خَمْل من ناعم النسيج الأخضر على غصونه اللُّدْن تتهافت من رقتها ونعومتها.
وعُقِدَ فوق هذا العرش تاج كبير من الورد النادر، كأنما نُزع عن مَفْرِق مَلِك الزمن الربيعي؛ وتنظر إليه يسطع في النور بجماله الساحر، سطوعًا يخيل إليك أن أشعة من الشمس التي ربَّت هذا الورد لا تزال عالقة به، وتراه يزدهي جلالًا، كأنما أدرك أنه في موضعه رمز مملكة إنسانية جديدة، تألفت من عروسين كريمين, ولاح لي مرارًا أن التاج يضحك ويستحي ويتدلل، كأنما عرف أنه وحده بين هذه الوجوه الحِسَان يمثل وجه الورد.
ونُصَّ على العرش كرسيان يتوهج لون الذهب فوقهما، ويكسوهما طراز أخضر تلمع نضارته بِشْرًا، حتى لتحسب أنه هو أيضًا قد نالته من هذه القلوب الفَرِحة لمسة من فرحها الحي.
وتدلت على العرش قلائد المصابيح، كأنها لؤلؤ تخلَّق في السماء لا في البحر، فجاء من النور لا من الدر؛ وجاء نورًا من خاصته أنه متى استضاء في جو العروس أضاء الجو والقلوب جميعًا.
وأتى العروسان إلى عرش الورد، فجلسا جِلْسة كوكبين حدودهما النور والصفاء؛ وأقبلت العذارى يتخطَّرْنَ في الحرير الأبيض كأنه من نور الصبح، ثم وقفن حافَّات حول العرش، حاملات في أيديهن طاقات من الزّنبق، تراها عَطِرة بيضاء ناضرة حَيِيَّة، كأنها عذارى مع عذارى، وكأنما يحملن في أيديهن من هذا الزنبق الغض معاني قلوبهن الطاهرة؛ هذه القلوب التي كانت مع المصابيح مصابيح أخرى فيها نورها الضاحك.
واقتعدت دَرَجَ العرش تحت ربوتي الزهر ودون أقدام العروسين, طفلة صغيرة كالزهرة البيضاء تحمل طفولتها، فكانت من العرش كله كالماسة المدلَّاة من واسطة العِقْد، وجعلت بوجهها للزهر كله تمامًا وجمالًا، حتى ليظهر من دونها كأنه غضبان مُنْزَوٍ لا يريد أن يُرَى.
وكان ينبعث من عينيها فيما حولها تيار من أحلام الطفولة جعل المكان بمن فيه كأن له روح طفل بغتته مسرة جديدة.
وكانت جالسة جِلْسة شِعْر تمثل الحياة الهنيئة المبتكرة لساعتها ليس لها ماضٍ في دنيانا.
ولو أن مبدعًا افتَنّ في صنع تمثال للنية الطاهرة، وجيء به في مكانها، وأُخذت هي في مكانه لتشابها وتشاكل الأمر.
وكان وجودها على العرش دعوة للملائكة أن تحضر الزفاف وتباركه.
وكانت بصغرها الظريف الجميل تعطي لكل شيء تمامًا، فيرى أكبر مما هو، وأكثر مما هو في حقيقته. كانت النقطة التي استعلنت في مركز الدائرة، ظهورها على صغرها هو ظهور الإحكام والوزن والانسجام في المحيط كله.
لا يكون السرور دائمًا إلا جديدًا على النفس، ولا سرور للنفس إلا من جديد على حالة من أحوالها؛ فلو لم يكن في كل دينار قوة جديدة غير التي في مثله لما سُر بالمال أحد، ولا كان له الخطر الذي هو له؛ ولو لم يكن لكل طعام جوع يورده جديدًا على المعدة لما هنأ ولا مرأ؛ ولو لم يكن الليل بعد نهار، والنهار بعد ليل، والفصول كلها نقيضًا على نقيضه، وشيئًا مختلفًا -على شيء مختلف- لما كان في السماء والأرض جمال، ولا منظر جمال، ولا إحساس بهما؛ والطبيعة التي لا تفلح في جعلك معها طفلًا تكون جديدًا على نفسك, لن تفلح في جعلك مسرورًا بها لتكون هي جديدة عليك.
وعرش الورد كان جديدًا عند نفسي على نفسي، وفي عاطفتي على عاطفتي، ومن أيامي على أيامي؛ نزل صباح يومه في قلبي بروح الشمس، وجاء مساء ليلته لقلبي بروح القمر؛ وكنت عنده كالسماء أتلألأ بأفكاري كما تتلألأ بنجومها؛ وقد جعلتني أمتد بسروري في هذه الطبيعة كلها، إذ قدرت على أن أعيش يومًا في نفسي؛ ورأيت وأنا في نفسي أن الفرح هو سر الطبيعة كلها، وأن كل ما خلق الله جمال في جمال، فإنه تعالى نور السموات والأرض، وما يجيء الظلام مع نوره، ولا يجيء الشر مع أفراح الطبيعة إلا من محاولة الفكر الإنساني خلق أوهامه في الحياة، وإخراجه النفس من طبائعها، حتى أصبح الإنسان كأنما يعيش بنفس يحاول أن يصنعها صناعة، فلا يصنع إلا أن يزيغ بالنفس التي فطرها الله.
يا عجبًا! ينفر الإنسان من كلمات الاستعباد، والضَّعة، والذلة، والبؤس، والهم، وأمثالها، وينكرها ويردها، وهو مع ذلك لا يبحث لنفسه في الحياة إلا عن معانيها.
إن يومًا كيوم عرش الورد لا يكون من أربع وعشرين ساعة، بل من أربعة وعشرين فرحًا؛ لأنه من الأيام التي تجعل الوقت يتقدم في القلب لا في الزمن، ويكون بالعواطف لا بالساعات، ويتواتر على النفس بجديدها لا بقديمها.
كان الشباب في موكب نصره، وكانت الحياة في ساعة صلح مع القلوب، حتى اللغة نفسها لم تكن تلقي كلماتها إلا ممتلئة بالطرب والضحك والسعادة، آتية من هذه المعاني دون غيرها، مصورة على الوجوه إحساسها ونوازعها، وكل ذلك سحر عرش الورد، تلك الحديقة الساحرة المسحورة، التي كانت النسمات تأتي من الجو ترفرف حولها متحيرة كأنما تتساءل: أهذه حديقة خُلقت بطيور إنسانية؛ أم هي شجرة ورد من الجنة بمن يتفيَّأْنَ ظلها ويتنسَّمْنَ شذاها من الحُور؛ أم ذاك منبع وردي عطري نوراني لحياة هذه المَلِكة الجالسة على العرش!
يا نسمات الليل الصافية صفاء الخير، أسأل الله أن تنبع هذه الحياة المقبلة في جمالها وأثرها وبركتها من مثل الورد المبهج، والعطر المنعش، والضوء المحيِي؛ فإن هذه العروس المعتلية عرش الورد:
هي ابنتي.