بنت الباشا

  Bài viết hay nhất1
كانت هذه المرأة وضَّاحة الوجه، زهراء اللون كالقمر الطالع، تحسبها لجمالها غذَّتْها الملائكة بنور النهار، وروَّتْها من ضوء الكواكب.
وكانت بَضَّة مقسمة أبدع التقسيم، يلتف جسمها شيئًا على شيء التفافًا هندسيًّا بديعًا، يرتفع عن أجسام الغِيد الحِسان؛ أفرغ فيها الجمال بقدر ما يمكن إلى أجسام الدمى العبقرية التي أفرغ فيها الجمال والفن بقدر ما يستحيل.
وكانت باسمة أبدًا ما يتلألأ الفجر، حتى كأن دمها الغزلي الشاعر يصنع لثغرها ابتسامتها، كما يصنع لخديها حمرتهما.
ما لها جلست الآن تحت الليل مطرقة كاسفة ذابلة، تأخذها العين فما تشك أن هذا الوجه قد كان فيه منبع نور وغاض! وأن هذا الجسم الظمآن المعروق هو بقعة من الحياة أقيم فيها مأتم!
ما لهذه العين الكحيلة تُذري الدمع وتسترسل في البكاء وتلج فيه، كأن الغادة المسكينة تبصر بين الدموع طريقًا تفضي منه نفسها إلى الحبيب الذي لم يعد في الدنيا؛ إلى وحيدها الذي أصبحت تراه ولا تلمسه، وتكلمه ولا يرد عليها؛ إلى طفلها الناعم الظريف الذي انتقل إلى القبر ولن يرجع، وتتمثله أبدًا يريد أن يجيء إليها ولا يستطيع، وتتخيله أبدًا يصيح في القبر يناديها: "يا أمي، يا أمي".
قلبها الحزين يقطع فيها ويمزق في كل لحظة؛ لأنه في كل لحظة يريد منها أن تضم الطفل إلى صدرها؛ ليستشعره القلب فيفرح ويتهنأ إذ يمس الحياة الصغيرة الخارجة منه ولكن أين الطفل؟ أين حياة القلب الخارجة من القلب؟
لا طاقة للمسكينة أن تجيب قلبها إلى ما يطلب، ولا طاقة لقلبها أن يهدأ عما يطلب؛ فهو من الغيظ والقهر يحاول أن يفجر صدرها، ويريد أن يدق ضلوعها؛ ليخرج فيبحث بنفسه عن حبيبه!
مسكينة تترنّح وتتلوّى تحت ضربات مهلكة من قلبها، وضربات أخرى من خيالها، وقد باتت من هذه وتلك تعيش في مثل اللحظة التي تكون فيها الذبيحة تحت السكين. ولكنها لحظة امتدت إلى يوم، ويوم امتدت إلى شهر. يا ويلها من طول حياة لم تعد في آلامها وأوجاعها إلا طول مدة الذبح للمذبوح.
ولو كان للموت قطار يقف على محطة في الدنيا، ليحمل الأحباب إلى الأحباب، ويسافر من وجود إلى وجود، وكانت هذه الأم جالسة في تلك المحطة منتظرة تتربص، وقد ذُهلت عن كل شيء، وتجردت من كل معاني الحياة، وجمدت جمود الانتقال إلى الموت؛ لما كانت إلا بهذه الهيئة في مجلسها الآن في شرفتها من قصرها؛ تطل على الليل المظلم وعلى أحزانها!
هي فلانة بنت فلان باشا وزوجة فلان بك. ترادفت النعم على أبيها فيما يطلب وما لا يطلب، وكأنما فرغ من اقتراحه على الزمان واكتفى من المال والجاه، فلم يعجب الزمان ذلك، فأخذ يقترح له ويصنع ما يقترح، ويزيده على رغمه نعمًا تتوالى!
وكان قد تقدم إلى خِطْبة ابنته شاب مهذب، يملك من نفسه الشباب والهمة والعلم، ومن أسلافه العنصر الكريم والشرف الموروث؛ ومن أخلاقه وشمائله ما يكاثر به الرجال ويفاخر. بيد أنه لا يملك من عيشه إلا الكفاف والقلة، وأملًا بعيدًا كالفجر وراء ليل لا بد من مصابرته إلى حين ينبثق النور.
وتقدم صاحبنا إلى الباشا فجاءه كالنجم عاريًا؛ أي: في أزهى نورانيته وأضوئها. وكان قد علق الفتاة وعلقته، فظن عند نفسه أن الحب هو مال الحب، وأن الرجولة هي مال الأنوثة، وأن القلوب تتعامل بالمسرات لا بالأموال، ونسي أنه يتقدم إلى رجل ماليّ جعلته حقارة الاجتماع رتبة، أو إلى رتبة مالية جعلتها حقارة الاجتماع رجلًا, وأن كلمة "باشا" وأمثالها إنما تخلفت عن ذلك المذهب القديم: مذهب الألوهية الكاذبة التي انتحلها فرعون وأمثاله، ليتعبدوا الناس منها بألفاظ قلوبهم المؤمنة؛ فإذا قيل "إله" كان جواب القلب: "عز وجل"، "سبحانه".
ولما ارتقى الناس عن عبادة الناس، تلطفت تلك الألوهية ونزلت إلى درجات إنسانية، لتتعبد الناس بألفاظ عقولهم الساذجة؛ فإن قيل "باشا" كان جواب العقل الصغير: "سعادتلو أفندم!"1.
نسي الشاب أنه "أفندي" سيتقدم إلى "باشا" وأعماه الحب عن فرق بينهما؛ وكان سامي النفس، فلم يدرك أن صغائر الأمم الصغيرة لا بد لها أن تنتحل السمو انتحالًا، وأن الشعب الذي لا يجد أعمالًا كبيرة يتمجد بها، هو الذي تُخترع له الألفاظ الكبيرة ليتلهى بها؛ وأنه متى ضعف إدراك الأمة لم يكن التفاوت بين الرجال بفضائل الرجولة ومعانيها، بل بموضع الرجولة من تلك الألفاظ؛ فإن قيل "باشا" فهذه الكلمة هي الاختراع الاجتماعي العظيم في أمم الألفاظ؛ ومعناها العلمي: قوة ألف فدان أو أكثر أو أقل؛ ويقابلها مثلًا في أمم الأعمال الكبيرة لفظ "الآلة البخارية" ومعناها العلمي قوة كذا وكذا حصانًا أو أقل أو أكثر2!
نسي هذا الشاب أن "أمم الأكل والشرب" في هذا المشرق المسكين، لا تتم عظمتها إلا بأن تضع لأصحاب المال الكثير ألقابًا هي في الواقع أوصاف اجتماعية للمعدة التي تأكل الأكثر والأطيب والألذ، وتملك أسباب القدرة على الألذ والأطيب والأكثر.
وتقدم "الأفندي" يتودد إلى "الباشا" ما استطاع، ويتواضع وينكمش، ولا يألوه تمجيدًا وتعظيمًا؛ ولكن أين هو من الحقيقة؟ إنه لم يكن عند الباشا إلا أحمق؛ إذ لم يعرف أن تقدمه إلى ذلك العظيم كان أول معانيه أن كلمة "أفندي" تطاولت إلى كلمة "باشا" بالسب علنًا!
وانقبضوا عن "الأفندي" وأعرضوا عنه إعراضًا كان معناه الطرد؛ ثم جاء "البك" يخطب الفتاة.
و"بك" مَنْبَهَة للاسم الخاطب، وشرف وقدر وثناء اجتماعي، وذكر شهير، وإرغام على التعظيم بقوة الكلمة، ودليل على الحرمات اللازمة للاسم لزوم السواد للعين، ولو لم يكن تحت "بك" رجل، فإن تحتها على كل حال "بك"! وأنعم له الباشا، ووصل يده بيد ابنته فألبسها وألبسته، وأعلمها أبوها أنه قد فحص عن البك فإذا هو "بك" قوة مائتي فدان. أما الأفندي فظهر من الفحص الهندسي الاجتماعي أنه "أفندي" قوة خمسة عشر جنيهًا في الشهر!
وخَنَس الأفندي وتراجع منخزلًا، وقد علم أن "الباشا" إنما زوج لقبه قبل أن يزوج ابنته، وأنه هو لمن يملك مهر هذا اللقب إلا إذا ملك أن يبدل أسباب التاريخ الاجتماعي في الأمم الضعيفة، فينقل إلى العقل أو النفس ما جعلته "أمم الأكل والشرب" من حق المعدة، فلا يكون "باشا" إلا مخترع شرقي مفلس أو أديب عظيم فقير، أو من جرى هذا المجرى في سمو المعنى لا في سمو المال.
وقدمت مائتا الفدان مهرها "الطيني" العظيم بما تعبيره في اللغة الطينية: ثمن عشرين ثورًا، ومثلها جاموسًا، ومثلها بغالًا وأحمِرَة، وفوقها مائة قنطار قطنًا، ومائة إردب قمحًا؛ ثم ذرة، ثم شعيرًا. والمجموع الطيني لذلك ألف جنيه، وعزَّى الباشا أنه مستطيع أن يقول للناس: إنها خمسة آلاف، اختزلتها الأزْمة قبحها الله!
ثم زُفَّت "بنت الباشا" زفافًا طينيًّا بهذا المعنى أيضًا، كان تعبيره: أنه أنفق عليه ثمن ألف قنطار بصلًا، ومائة غَرارة من السماد الكيماوي، كأنما فرش بها الطريق!
وطفِق الباشا يفاخر ويتمدح، ويتبذخ على الأفندي وأمثال الأفندي بالطين ومعاني الطين؛ فردت الأقدار كلامه، وجعلت مرجعه في قلبه، وهيأت لبنت الباشا معيشة "طينية" بمعنى غير ذلك المعنى.
ومات الطفل؛ فردت هذه النكبة بنت الباشا إلى معاني انفرادها بنفسها قبل الزواج، وزادتها على انفرادها الحزن والألم؛ وألقت الأقدار بذلك في أيامها ولياليها التراب والطين.
ولجَّ الحزن ببنت الباشا فجعلت لا ترى إلا القبر، ولا تتمنى إلا القبر، تلحق فيه بولدها؛ فوضعت الأقدار من ذلك في روحها معنى الطين والتراب.
وأسقم الهم بنت الباشا وأذابها؛ فنقلت الأقدار إلى لحمها عمل الطين، في تحليله الأجسام وإذابتها تحت البِلَى.
وكان وراء قصرها حِوَاء يأوي إليه قوم من "طين الناس" بنسائهم وعيالهم، وفيهم رجل "زبال" له ثلاثة أولاد، يراهم أعظم مفاخره وأجمل آثاره، ولا يزال يرفع صوته متمدحا بهم, ويخترع لذلك أسبابا كثيرة لكي يسمعه جيرانه كل ليلة مفاخرًا، مرة بأحمد، ومرة بحسن، ومرة بعلي، وأعجب أمره أنه يرى أولاده هؤلاء متممين في الطبيعة لأولاد "الباشوات". وهو يحبهم حب الحيوان المفترس لصغاره؛ يرى الأسد أشباله هم صنعة قوته، فلا يزال يحوطهم ويتممهم ويرعاهم، حتى إنه ليقاتل الوجود من أجلهم؛ إذ يشعر بالفطرة الصادقة أنه هو وجودهم، وأن الطبيعة وهبت له منهم مسرات قلبه، ذلك القلب الذي انحصرت مسراته في النسل وحده، فصار الشعور بالنسل عنده هو الحب إلى نهاية الحب, وكذلك الزبال الأسد .
ومن سخرية القدر أن زبالنا هذا لم يسكن الحواء إلا في تلك الليلة التي جلست فيها بنت الباشا على ما وصفنا، وفي ضلوعها قلب يفتت من كبدها، ويمزق من أحشائها.
وبينا تُناجي نفسها وتعجب من سخرية الأقدار بالباشا والبك، وتستحمق أباها فيما أقدم عليه من نبذ كفئها لعجزه عن مهر باشا، وإيثار هذا المهر الطيني، وتباهيه به أمام الناس، واندرائه بالطعن على من ليس له لقب من ألقاب الطين, بينا هي كذلك إذا بالزبال؛ كانس التراب والطين يهتف في جوف الليل ويتغنى:
يا ليل، يا ليل، يا ليلما تنجلي يا ليل
القلب أهو راضيلك حمدي يا ربي
من الهموم فاضيافرح لي يا قلبي
يا دوب كدا يا دوبزي الحمام عايش
ما يِمْتِلِك غير تُوبطول عمره فيه نافش
يا ليل، يا ليل، يا ليلما تنجلي يا ليل
إن قلت أنا فرحانذا مين يكديني
واكْتَرْ من السلطانفرحانْ أنا بابني
بين السيوف يا ناسلِمَ انكسر سيفي
وابن الغنى محتاسوأنا على كيفي
يا ليل، يا ليل، يا ليلما تِنْجلي يا ليل
وابن الغنى فِ هموموالخالي خالي البال
والفقر ما بيدوموتدوم هموم المال
يا طير, يا طير، يا طيرالحر فوق اللوم
والخير، جميع الخيرلقمهْ، وعافيهْ، ونوم
يا ليل، يا ليل، يا ليلما تنجلي يا ليل
ولم تختر الأقدار إلا زبالًا ترسل في لسانه سخريتها بذلك الباشا وبنت ذلك الباشا!
وكسر قلب بكسر قلب و حطم نفس بحطم نفس
ورب عز تراه أمسى كُنَاسة هُيئت لكنس
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى